عاشوراء ليست ذكرى نبكيها… بل مشروع وعي نُحييه | قراءة عقلانية معاصرة لعاشوراء
د. ليندا غدار
منذ قرون، وقف رجل في وجه الظلم، رافضاً أن يبايع الباطل باسم السلام. دفع حياته ثمناً لموقف، ليبقى ذلك الموقف حيّاً فينا، يُسائلنا كلّ عام:
هل بكينا الحسين؟ أم قرأناه؟
هل خِفنا الظلم؟ أم واجهناه؟
الحسين يُقرأ بالعقل قبل أن يُبكى بالقلب، لأنّ كربلاء ليست مجرّد مأساة… إنها رسالة، وموقف، ومسؤولية.
من الحزن إلى العقل
مع اقتراب العاشر من محرّم كلّ عام، يتحوّل المشهد اللبناني، ولا سيما في المناطق ذات الغالبية الشيعية، إلى فضاء روحاني وثقافي ينبض بذكرى الإمام الحسين واستشهاده في كربلاء. تتجدّد المجالس العاشورائية وتُقام المسيرات والمواكب، في تقليد ديني واجتماعي متجذّر، لم يفقد زخمه منذ عقود. غير أنّ لهذه الظاهرة أبعاداً متعددة، إيجابية وسلبية، تستحق التأمّل والقراءة النقدية.
هوية تتجدّد عبر الزمن
تُعدّ المجالس الحسينية في لبنان ركيزة أساسية من ركائز الهوية الشيعية، لا على المستوى الديني فحسب، بل على المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية أيضاً. إذ تعزز هذه المجالس الانتماء إلى سيرة الحسين بوصفها سيرة مقاومة للظلم والطغيان، وتُعيد سرد ملحمة كربلاء لا كواقعة تاريخية وحسب، بل كرمز أخلاقي خالد، يتجاوز الزمان والمكان.
تساهم هذه المجالس في ترسيخ وعي جماعي يتجاوز الانتماء الفردي، وتعيد تشكيل الذاكرة الجماعية للطائفة، فتربط الأجيال الجديدة بجذورها الدينية، وتغرس فيهم قيم الشجاعة، الصبر، والعدل.
ومنذ نعومة أظافري، كنت أعيش هذا الجو العاشورائي في بيتنا على مدى عشرة أيام من الحداد الصارم. لم يكن يُسمح لنا بشراء أشياء جديدة، ولا بسماع الأغاني أو فتح التلفاز للتسلية، احتراماً لأيام الحزن. كنا نختلف عن محيطنا من الجيران السنّة في الحي، الذين لم يشاركوا هذه الطقوس، لكننا كنا نحترم اختلافنا، وكان ذلك يعمّق فينا شعور الخصوصية والانتماء. كانت قارئة مجلس العزاء ـ وهي زوجة رئيس المحكمة الجعفرية ـ تقيم في منزلنا يومياً مجلس عزاء عن سيرة عاشوراء. وفي المساء، كان والدي يطلب منّا أن نقرأ له السيرة من كتاب “سفينة النجاة”، ليغرس فينا منذ الطفولة معنى الانحياز للحق، والوقوف إلى جانبه دون حياد. كان يؤكد لنا أنّ الدفاع عن الحق ليس مجرّد فضيلة، بل واجب ديني وإنساني في آنٍ معاً.
مجالس عاشوراء منبر ديني… ومجتمعي
لا تقتصر وظيفة المجالس على الجانب العاطفي أو الطقوسي، بل هي منبرٌ حيّ للوعظ والتربية والإصلاح. فهي تتيح للخطباء منابر يومية لطرح قضايا اجتماعية، نقد عادات دخيلة، أو معالجة تحديات أخلاقية يعاني منها المجتمع. كذلك، أصبحت هذه المجالس منصة لنشر ثقافة المقاومة، وقراءة الواقع السياسي من منظور إيماني، دون أن تنفصل بالضرورة عن الشأن العام اللبناني والعربي.
من الناحية الاجتماعية، تعزز هذه المجالس من روح التضامن والعمل التطوعي، إذ يشارك مئات الشبان والناشطين في تنظيم الفعاليات، وإعداد الطعام، وتأمين الخدمات للحضور، ما يرسّخ قيَماً مجتمعية نبيلة كالمساعدة والمسؤولية والانتماء.
عاشوراء في السياق اللبناني
في لبنان، اكتسبت عاشوراء بعداً إضافياً، متشابكاً مع الذاكرة السياسية المعاصرة، خاصة بعد تجربة المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. باتت صورة الحسين رمزاً جامعاً لمفاهيم الكرامة والتحرر، واتخذت الذكرى طابعاً تعبوياً، يحفّز على المواجهة والصمود. وقد استُثمر هذا الطابع بشكل واسع في الخطاب المقاوم، لربط الماضي الثوري للحسين بالحاضر السياسي للطائفة.
غير أنّ هذا التداخل بين الديني والسياسي، بين الوجداني والواقعي، لا يخلو من إشكاليات عديدة.
تحديات وسلبيات لا تُغفل
رغم كلّ ما تقدّمه المجالس الحسينية من إيجابيات، فإنها لا تخلو من ثغرات يجب الالتفات إليها بوعي ومسؤولية. فحين تُختزل كربلاء إلى طقوس شكلية بلا مضمون، أو تُستغلّ المجالس لتعزيز الانقسام الطائفي، يفقد هذا التقليد كثيراً من جوهره الأخلاقي العميق.
كذلك، قد يؤدي تكرار خطاب المظلومية دون تطوير فكري إلى نوع من الانغلاق على الذات. وإن لم تتجدّد مضامين المجالس بما يواكب قضايا العصر وتحدياته، تصبح هذه المناسبات ماضوية أكثر منها حافزاً للتغيير والإصلاح.
نحو إحياءٍ مُعاصر
كيف نُعيد قراءة كربلاء كمنصة للتفكير النقدي، والتحرر من الظلم في جميع أشكاله، لا مجرد مناسبة حزينة تتكرر كلّ عام؟ سؤالٌ جوهريّ يجب أن يطرحه كلّ من يعمل في المجال الديني أو الثقافي داخل البيئة الشيعية في لبنان. ولا يكفي أن نكرّر سرديات المظلومية، بل يجب أن نحرّر عاشوراء من أسر التكرار، ونفعّلها كمنظومة قيَم تصلح لبناء مجتمع أكثر عدالة ومشاركة ومقاومة سلمية لكلّ أشكال الفساد أو الاستبداد.
إنّ قراءة عقلانية معاصرة لكربلاء تبدأ من التحوّل من العاطفة إلى الوعي، ومن الحزن إلى الفعل الاجتماعي. ولتحقيق ذلك، نقترح عدة طروحات عملية يمكن أن تترجم اجتماعياً:
*تحويل المجالس إلى فضاءات حوار مجتمعي،
*إدماج الشباب في فكر كربلاء لا فقط في طقوسها،
*إحياء الحسين كمشروع قيَمي لا كقصة حزينة،
*ربط المجالس بمبادرات اجتماعية ملموسة،
*إعادة الاعتبار للفكر النقدي داخل الخطاب الديني،
*إدراج كربلاء كواقعة خاضعة للنسبية التاريخانية، ايّ أن تُفهم كحدث وقع في سياقه الزمني والسياسي الخاص، لا كقصة أبدية قابلة للتعميم على مجمل التاريخ الإسلامي. فالتعميم العاطفي للتجربة الكربلائية، دون قراءتها كنصّ قابل للتأويل التاريخي، قد يُفضي إلى شقاق طويل الأمد بين المذاهب الإسلامية، ويُورّث الأجيال سرديات تُفاقم الانقسام بدل أن تُفضي إلى التلاقي حول عدالة القضية ومركزية الحق.
يمكن التفكير بمقترحات إضافية تُسهم في عصرنة الفكر الكربلائي وربطه بواقعنا المعاصر بطرق إبداعية وعملية.
*إدماج الفنون التعبيرية في إحياء عاشوراء: عبر تشجيع الإنتاج المسرحي، البصري، والسينمائي الذي يعيد تمثّل سيرة كربلاء بلغة فنية حديثة، تخاطب العقول والقلوب، وتحمل رسائل القيم الحسينية إلى الأجيال الشابة، بعيداً عن التلقين التقليدي.
*إطلاق منصّات رقمية فكرية ـ تفاعلية، لتقديم مضامين عاشورائية بأسلوب معاصر، من خلال بودكاستات، فيديوات قصيرة، وسلاسل معرفية تطرح الأسئلة الكبرى في فكر كربلاء (العدالة، الثورة، الإصلاح…) بأسلوب جذاب يفتح النقاش مع الجمهور.
*دمج القيم الكربلائية في المناهج التربوية الأهلية: من خلال تخصيص حصص خاصة أو أنشطة مدرسية تتناول معاني عاشوراء بصورة حقوقية وإنسانية، لا مذهبية، بهدف تكوين جيل يدرك أنّ “الحسين قضية” لا طقساً فقط.
*تحويل المجالس الحسينية إلى منصات لإطلاق مبادرات تغييرية مثل الدعوة إلى شفافية انتخابية، مكافحة العنف ضدّ النساء، أو نشر ثقافة المسؤولية البيئية، ليكون المجلس منبراً يُفعّل قيم كربلاء في قضايا مجتمعنا الراهن.
*تأسيس “نوادي فكر حسيني” في الجامعات والمراكز الثقافية تجمع شباباً وشابات من خلفيات متنوعة لقراءة تراث كربلاء بمنهجيات بحثية ونقدية، وتنتج عنها منشورات أو مشاريع تغيير مجتمعية، تدعمها شخصيات دينية متنورة.
*تشجيع رجال الدين على تطوير خطابهم الحسيني، عبر التدريب على تقنيات التواصل المعاصر، والانفتاح على العلوم الاجتماعية والسياسية، بحيث يتحوّل المنبر من منصة وعظ إلى مساحة فكرية تؤثر وتُلهم وتحاور.
اخيراً أرى أنّ مجالس عاشوراء في لبنان أكثر من مجرد طقوس، إنها مرآةٌ لهويةٍ دينية وثقافية وسياسية متفاعلة، يمكن أن تكون رافعة للنهوض المجتمعي إذا أُحسنت إدارتها وتطويرها، وممكن ان تكون العكس. وبين الحزن والوعي، بين الطقس والرسالة، يظلّ الحسين نداءً مفتوحاً للعدل، لا يموت، بل يتجدّد كلّ عام، وكلّ يوم…